اعلان |
من
أجل بناء تربوي سليم للنفس البشرية لا بد من تطوير التفكير بعدة أمور،
و هذه الأمور ينبغي تحققها منذ بداية الوعي أي من الطفولة المبكرة . وهذه الامور هي :
و هذه الأمور ينبغي تحققها منذ بداية الوعي أي من الطفولة المبكرة . وهذه الامور هي :
1ـ تحديد الهوية : من أنا ؟
إن العلاقات
الأولى للإنسان أو الطفل ترسم له ملامح ذاته و ترسي له التوازن في خطوات تعامله مع
الآخرين ، بشكل طيب أو خبيث متسامح أو ناقم منفتح أو مغلق واعٍ أو ساذج جبان أو
شجاع ... وغير ذلك .
يقول
الإمام الغزالي:
"اعلم أن الصبي
أمانة عند والديه و قلبه جوهرة ساذجة و هي قابلة لكل نقشٍ فإن عُوِّد الخير نشأ
عليه و شاركه أبواه و مؤدبه في ثوابه و إن عُوِّدَ الشر نشأ عليه و كان الوزر في
عنق وليه فينبغي أن يصونه و يؤدبه و يهذبه و يعلمه محاسن الأخلاق و يحفظه من قرناء
السوء".
هذه
التربة الإيجابية التي ينشأ عليها الطفل ستعطيه توازناً حتى آخر حياته . وهذا ما
يسمى "الفطرة" كما جاء في الحديث الشريف : "كل مولود يولد على الفطرة " البخاري
ونأتي الآن إلى القرآن
الكريم لنرى كيف يحدد هوية المسلم بشكل واضح تماماً :
قال
تعالى: (قُل
إن صلاتي و نُسُكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) الأنعام
162-163
كثيرٌ من الإشكاليات التي تقع بين الآباء
والأبناء نابعة من غياب الهوية الصحيحة،نلاحظ مثلاً :
أن الأبوين في
الأطوار الأولى لحياتهما الأسرية يكونان مثلاً غير متدينين فيعطيان الأولاد هوية
سلبية ، وعندما يصبح الأولاد في سن المراهقة مثلاً يتحول الوالدان تدريجياً إلى
الدين ، و يجدان صعوبة هائلة في تحويل الأبناء معهما ، السبب أن الهوية المزروعة
كانت سلبية أصلاً ، ولا يمكن تحويلها إلا من خلال قناعات عميقة أو تجارب خاصة لا
تَقِلُّ عمقاً عن تجارب الأبوين ، وكذلك الحال في أبوين كانا متدينين إلى حد
التنطع مثلاً ثم وصلا إلى نوعٍ من التوازن ، وهما يعانيان من أولاد متنطعين
يحاولان رد المعادلة إلى التوازن فلا يفلحان إلا بعد جهد وقد لا ينجح الأمر . و السبب
أن الهوية الأصلية تكون لها بصمات عميقة جداً في النفس البشرية ، لذا فإن التأثير
على نشأة الطفل الأولى تدمغه بهوية محددة وهذا أمر شديد الخطورة لا يقل خطراً عن
التلاعب بالجينات الوراثية .
ويحدثنا القرآن الكريم كيف أن فرعون لما علمَ أنَّ طفلاً سيولد
وتكون له هوية غيرَ ما يريد ؛ عمل كل ما يستطيع لطمسها حتى صار يقتل كل الأطفال .
2ـ الانسجام الداخلي أو
تَقَبُّل الذات :
إن
الإنسان لا ينقطع عن التفكير في تكوينه الداخلي ، والتقبل الخارجي له ؛ فإن بنيت
قناعات عميقة داخلية مقنعة أعطت صاحبها الاستقرار اللازم للنمو السليم ، والذين
يتنقلون في حياتهم كثيراً بين مدارس شتّى عندهم (غالباً) مشكلةُ عدم الانسجام
الداخلي ، وهذا الأمر إذا لم يصل صاحبه إلى نتيجة فيه فقد يتحول إلى نوع من
الوسواس .
والقرآن
الكريم أعطانا المعيار الأساسي لتقييم أي عمل داخلي أو خارجي في قوله تعالى: (يا أيُّها
الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمكم
عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير) الحجرات/13
فتقبل
الذات عن طريق اتباع طريق الهدى وتقوى الله يجعل الحياة فيها الخير للجميع ؛
أما
المبادئ التي تركز على الفردية الطاغية ,أو الجماعية المفرطة ,أو النفعية ,أو
الوصولية .. فهي لا تؤدي إلا إلى خراب فردي و جماعي .
وهنا
تحضرنا قصة لطيفة جرت لسهل بن عبد الله مع خاله محمد بن سوار , وكيف بنى الانسجام
الداخلي فيه إذ يقول:
"أنه كان ابن ثلاثِ
سنين و هو ينظر إلى خاله يصلي في الليل فقال له خاله يوماً : ألا تذكر الله الذي
خلقك؟
فسأله: كيف أذكره؟
فطلب منه أن يقول بقلبه
عدة مرات: الله معي ؛ الله ناظر إليَّ ؛ الله شاهدي ؛
فقال ذلك عدة ليالٍ ثم
أعلمه ، فزاد له العدد. قال سهل: ففعلت ذلك فوقع في قلبي حلاوته فلما كان بعد سنة
قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودُم عليه إلى أن تدخل قبرك ؛ فلم أزل على ذلك سنين
فوجدت له حلاوة في سري ؛
ثم قال لي خالي: يا سهل
من كان الله معه ، وهو ناظر إليه وشاهد عليه ، هل يعصيه؟ إياك و المعصية. وكبر سهل وحفظ القرآن وهو ابن ست أو سبع سنين
ثم صار من الصائمين الزاهدين و ربما قام الليل كله" ،
ودخل أبواب تاريخ هذه الأمة.
أكثر
النزعات السلبية و العدوانية عند الأطفال تأتي في أيام الطفولة الأولى نتيجة
خِبرات فارغة مخيفة . فالطفل الذي يعامل بقسوة في صغره تُغرس فيه نزعاتٌ إجرامية ,
إنَّ الحزم شيء جيد و ضروري في التربية لكن القسوة غير مناسبة للطفل .
ومن
الأغلاط المتكررة تخويف الطفل بأن الله سيحرقه بالنار ، والتصرف السليم هو ترغيب
الطفل بأن الله سيحبه ، وتنفيره من الكذب ، وغرس معنى حب الله للصادقين ، إلى أن
تصبح نفسيته قادرة على تمييز الخير والشر ...
3ـ إنشاء القدوة : بمن أقتدي ؟؟
دائماً
نحتاج إلى نماذج قدوة للسلوك نقتدي بها و نتمحور حولها لتصبح مثلنا العليا و تتمثل
فيها الصور و الطموحات التي ننشُدُها ، وهذا يعتبر نوعاً من الانتماء ؛ فلا يمكن لأحد أن يكون من
دون انتماء ؛
وهذا
الانتماء يَزرعُ فيهِ أنماط السلوك والتفكير والتصورات والطموحات التي يسعى إليها .
وذلك
مستنبط من قوله تعالى : (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و
اليوم الآخر و ذكر الله كثيراً) الأحزاب/21
و
النوبات الفكرية التي تحصل عند البعض سببها عدم وضوح مفهوم الأسوة .
4ـ بناء الضمير الناضج
:
ماذا
يجب أن أفعل؟
كيف أتصرف عند الإنصدام مع الحياة العملية ؟
إن
الإنسان عندما يختار نموذجاً يقتدي به تواجهه حالات تحتاج إلى بُعد نظر في تقدير
ملاءمتها للقدوة المختارة ، وبقدر فهم النموذج أو القدوة يكون التصرف قريباً من
الصواب ؛
عدم
اتضاح قاعدة (ماذا يجب أن أفعل؟) لها نتائج خطيرة .
أحياناً
يكون الإنسان في موقف صدعٍ بالحق فيقال عنه متهور ، أحياناً يكون في موقف حكمة
يقال عنه جبان ، أحياناً يكون في موقف هداية يقال عنه منافق . وقد يكون في موقف
نفاق اجتماعي فيقال عنه لبق ، وقد ورد في الحديث الصحيح أنه يأتي على الناس زمان
يقال للرجل فيه "ما أعقله وما أظرفه وما أجلده
وما في قلبه حبة خردل من إيمان" البخاري
و قال
النبي صلى الله عليه و آله و سلم : "إن من أشراط
الساعة أن يُرفع العلم و يظهر الجهل" البخاري ومسلم
فسّره
الإمام الشعبي : أنه لا تقوم الساعة حتى يصير العلم جهلاً و الجهل علماً .
قال
تعالى : (والذين جاهدوا فينا لنهديهم سُبُلنا
وإنَّ الله لمع المحسنين) العنكبوت/69
من دون المجاهدة و البحث واكتساب التجربة
والخبرة لن تعرف الطريق .
5ـ ما هي قيمة ما أفعله
:
أحياناً
تغدو الأمور في نظرة عاجلة لا جدوى لها ، ولا فائدة منها , مثال ذلك :
حديث
الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وآله سلم يأمرنا بأنه : " إن قامت الساعة و بيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا
يقوم حتى يغرسها فليفعل" مسند
أحمد/ حديث صحيح
هذه
النبتة الصغيرة لن يرى أحد من البشر نموها ولا ثمارها و لن يتفيأ ظلالها ، والموقف
عصيب , فماذا نستفيد من غرسها ؟ ماهي قيمة هذا العمل ؟
عند
التفكير في حديث نبينا عليه السلام يتبين لنا أنه رغم ذلك فإن العمل الصالح يكتسب
إيجابية هائلة في الإسلام ؛ لذلك لابد من فعله مهما كانت الظروف .
إنَّ
الحق يجب أن يُذكر ويُرفع لأنه حق مهما كانت النتيجة ، والباطل يجب أن يُوقف
ويُفضح لأنه باطل مهما كانت النتيجة .

والقرآن
الكريم أمر بالاستمرار بالفعل الإيجابي حتى النهاية فقال لنا : (واعبد ربك حتى
يأتيك اليقين) الحجر/99
إنَّ
الثبات على الحق يعطي الإنسان التوازن و الاستقرار ؛ بل الرضى عن الله تعالى في
الدنيا و الآخرة .
هذه
الأمور الخمسة التي تحدثنا عنها ضرورية من أجل بناءٍ تربويٍ سليمٍ للنفس البشرية ..
لا
نستطيع إصلاح أحد حتى أبنائَنا و بناتِنا الذين نحبهم جميعاً
إن
لم نستطع فهم الثغرات في أنفسنا
وإلا
فإنَّ فاقد الشيء لا يعطيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق